الكتابة سرّ بقاء الإنسان....هي صفته و تميّزه و سرّ خلوده
الحياة عبث و فوضى عارمة يحكمها قانون التصارع، البقاء فيها للأذكى و الأقوى و عليه فإنّ ادّعاء أي حقيقة بشأنها أمر فيه زيف و تضليل،سرعان ما تنكشف لك عبثيّتها و تتراءى لك فارغة زائفة خالية من المعالم، عارية من الحقيقة التي نأمل فيها و نبحث عنها.. و بمرور الوقت تصدمنا سرعة تلاشي كل تلك البهرجة من المعاني الجميلة أو السيئة( حسب وجهة نظرنا ) و يصيبنا الإحباط من سرعة حلول الفناء و النسيان عليها و من ثمّة لا أثر و لا صدى!
الإنسان نفسه لا أهمّية له و لا أهمّية تذكر لوجوده ما دام قدره الانقضاء و الزوال و ما دام بقاءه مرتبط و منوط إلى أبعد الحدود بمتغيرات و معطيات عدائية لا تحصى ظاهرة و خافية تحيط به من كل جانب، ما أهمّية هذا الإنسان إن كانت صدمة أو ضربة عابرة غير مقصودة و غير متوقعة تضع حدّا لأنفاسه؟ ما أهمّية حياته التي يتباهى بها إن كانت معلّقة بنزوات و أهواء قائد أو سياسي له مطلق الحرّية في التصرّف ببقائها من عدمها؟ ما أهمّية الأرواح البشرية و هي تزهق بالآلاف أثناء المعارك و الحروب و الأوبئة دون سبب واضح؟ ما السر ّ وراء هشاشة النّفس البشرية و قابليتها و كثرة تعرضها للمهالك؟ على مرّ الزمن دأب النّاس على التّقاتل و سفك دماء بعضهم البعض بدافع الجشع و حبّ السّيطرة و كسب الأموال و الجري وراء المتع الحسّية و الجسديّة في عالم تلفّه ظلمات من الأحقاد و الكراهية و العنف و ينوء بأحمال الجهل و الفقر و الحرمان و الجوع...أعداد لا نهائية من الجنس البشري حكم عليها أن تعيش و تقتات من فتات المحظوظين في عالمها السفلي!
هناك أشخاص إما لذكائهم أو لعبث الصدفة ( على مّر التاريخ البشري ) يسيطرون على الّرقاب و يستحوذون على الأرزاق لصالح بقائهم و استمرارهم، كثير منهم تعجبهم قوّتهم فيتحوّلون إلى طغاة و جبابرة، يتلذّذون بسادية لا مسوغ و لا مبرّر لها، يفتكون و يفسدون و يحرمون، يستأثرون لأنفسهم و يجعلون من مصالح النّاس و أقواتهم و حتّى من أرواحهم لعبة بين أيديهم، يستهينون بكرامة الإنسان، أمنه، حرّيته و لقمة عيشه، يعاملون البشر كقطعان من البهائم و الدّواب!
يسّنون قوانين على مقاسهم و حسب أهوائهم تخدمهم و تخدم مصالحهم،يدجّنون النّاس باسم الّنظام العام زاعمين أنّ لقوانينهم مصادر فوقيّة أو تمثيليّة لتكريس و إحكام سيطرتهم. عالم ما أسرع ما تتلاشى فيه المعاني العظيمة، مآثره، بطولات شخوصه و رموزه ، سرعان ما يذهب البريق و يخفّ الوهج الذي يعمي الأبصار و تصمت جلجلتها الّتي تصمّ الآذان و تتحوّل الحياة ( في جوهرها ) إلى التّفاهة و الكذب و الزّيف، لولا ذلك الاختراع العظيم الّذي حبا الّله به للإنسان دون باقي خلقه ألا و هي "الكلمة" و أعني تحديدا "الكلمة المكتوبة" فهي في نظري الوسيلة الوحيدة لخلوده لأنّها تسجّل حياته و تصف آثاره و عظائم أعماله، أحيانا تضخّمها و أحيانا تقزّمها، قد تجعل من أناس عظماء و تنسب إليهم أعمالا عظيمة ( صدقا أو كذبا ) تخلّدهم و تنشر ذكرهم عبر الأجيال و العصور، و قد تتجاهل أناسا عظماء فيدفنون إلى الأبد في غياهب النّسيان! الكلمة تزيّن و تبهرج المعاني و الأفكار و المشاعر الإنسانيّة، تجعلها مؤثّرة و تضفي عليها الشّاعريّة، تتنكّر لمعاني أخرى أو تغالي في شجبها حتّى تسوّدها فكم من رجل و امرأة عبر التّاريخ خلّدتهم الكلمات و السّطور و حوّلتهم إلى مشاهير لمآثر حقيقيّة أو مفتعلة حتّى أصبح يحتذى بهم عبر الأزمنة و العصور و كم من آخرين أنجزوا مفاخر إنسانيّة في الآداب و الفنون أو العلوم، أو قدّموا أعمالا جليلة أو تضحيات جسام من أجل الحرّية أو رخاء الإنسان، لكنّ النّسيان طواهم فور موتهم و جعل منهم مجاهيل لأنّ أحدا لم يكتب عنهم شيئا... فالكتابة حسب ما أعتقد هي سرّ بقاء الإنسان و استمراره، هي صفته و تميّزه و سّر خلوده.